الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وهذه الأعمال الباطنة، كمحبة اللّه والإخلاص له والتوكل عليه والرضا عنه ونحو ذلك، كلها مأمور بها في حق الخاصة والعامة لا يكون تركها محمودًا في حال أحد، وإن ارتقى مقامه. وأما [الحزن] فلم يأمر اللّه به ولا رسوله، بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين، كقوله تعالى: وذلك ؛لأنه لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر اللّه به، نعم! لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم، كما يحزن على المصائب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اللّه لا يؤاخذ على دمع العين ولا على حزن القلب، ولكن يؤاخذ على هذا أو يرحم) وأشار بيده إلى لسانه، وقال صلى الله عليه وسلم: (تدمع العين، ويحزن القلب، /ولا نقول إلا ما يرضى الرب)، ومنه قوله تعالى: وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه ويحمد عليه، فيكون محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا. فهذا يثاب على ما في قلبه من حب الخير، وبغض الشر، وتوابع ذلك، ولكن الحزن على ذلك إذا أفضى إلى ترك مأمور من الصبر والجهاد وجلب منفعة ودفع مضرة نهى عنه، وإلا كان حسب صاحبه رفع الإثم عنه من جهة الحزن. وأما إن أفضى إلى ضعف القلب واشتغاله به عن فعل ما أمر اللّه ورسوله به، كان مذمومًا عليه من تلك الجهة، وإن كان محمودًا من جهة أخرى. وأما المحبة للّه، والتوكل عليه، والإخلاص له ونحو ذلك، فهذه كلها خير محض، وهي حسنة محبوبة في حق كل أحد من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. ومن قال: إن هذه المقامات تكون للعامة دون الخاصة فقد غلط في ذلك إن أراد خروج الخاصة عنها، فإن هذه لا يخرج عنها مؤمن قط، وإنما يخرج عنها كافر أو منافق. وقد تكلم بعضهم في ذلك بكلام، بينا غلطه فيه وأنه تقصير في تحقيق هذه المقامات بكلام مبسوط وليس هذا موضعه. /ولكن هذه المقامات ينقسم الناس فيها إلى: خصوص وعموم، فللخاصة خاصها، وللعامة عامها. مثال ذلك أن هؤلاء قالوا: إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت، والخاص لا يناضل عن نفسه. وقالوا: المتوكل يطلب بتوكله أمرًا من الأمور، والعارف يشهد الأمور بفروعها منها فلا يطلب شيئًا. فيقال: أما الأول فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على اللّه في صلاح قلبه ودينه وحفظ لسانه وإرادته وهذا أهم الأمور إليه؛ ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله: فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع؛ لأن هذين يجمعان الدين كله؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن اللّه جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله: وهاتان الكلمتان هما الجامعتان اللتان للرب والعبد، كما في الحديث الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول اللّه سبحانه: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل) قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (يقول العبد: الحمد للّه رب العالمين، يقول اللّه: حمدني عبدي. يقول العبد: الرحمن / الرحيم، يقول اللّه: أثنى على عبدي. يقول العبد: مالك يوم الدين، يقول اللّه: مجدني عبدي. يقول العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول اللّّه: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. يقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، يقول اللّه: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل). فالرب سبحانه له نصف الثناء والخير، والعبد له نصف الدعاء والطلب. وهاتان جامعتان ما للرب سبحانه، وما للعبد، فإياك نعبد للرب، وإىاك نستعين للعبد. وفي الصحيحين عن معاذ ـ رضي اللّه عنه ـ قال: كنت رديفًا للنبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: (يا معاذ، أتدري ما حق اللّه على العباد؟) قلت: اللّه ورسوله أعلم، قال: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، أتدري ما حق العباد على اللهّ إذا فعلوا ذلك؟) قلت: اللّه ورسوله أعلم، قال: (حقهم عليه ألا يعذبهم). والعبادة هي الغاية التي خلق اللّه لها العباد من جهة أمر اللّه ومحبته ورضاه كما قال تعالى: والتوكل والاستعانة للعبد؛ لأنه هو الوسيلة والطريق الذي ينال به مقصوده ومطلوبه من العبادة، فالاستعانة كالدعاء والمسألة. وقد روى الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يقول اللّه عز وجل: يا بن آدم، إنما هي أربع: واحدة لي، وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين خلقي. فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي هي لك فعملك أجازيك به أحوج ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك فمنك الدعاء وعلىَّ الإجابة، وأما التي بينك وبين خلقي فأت للناس ما تحب أن يأتوا إليك). وكون هذا للّه وهذا للعبد هو باعتبار تعلق المحبة والرضا ابتداء، فإن العبد ابتداء يحب ويريد ما يراه ملائمًا له، واللّه ـ تعالى ـ يحب ويرضى ما هو الغاية المقصودة في رضاه، ويحب الوسيلة تبعًا لذلك، وإلا فكل مأمور به فمنفعته عائدة على العبد، وكل ذلك يحبه اللّه ويرضاه، وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط بل التوكل في الأمور الدينية أعظم. /وأيضًا، التوكل من الأمور الدينية التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها، والزاهد فيها زاهد فيما يحبه اللّه ويأمر به ويرضاه. والزهد المشروع هو: ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة اللّه، كما أن الورع المشروع هو: ترك ما قد يضر في الدار الآخرة، وهو ترك المحرمات والشبهات التي لايستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها، كالواجبات. فأما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة، فالزهد فيه ليس من الدين بل صاحبه داخل في قوله تعالى: وأيضًا، فإن التوكل هو محبوب للّه مرضي له مأمور به دائمًا، وما كان محبوبًا للّه مرضيًا له مأمورًا به دائما لا يكون من فعل المقتصدين دون المقربين، فهذه ثلاثة أجوبة عن قولهم: المتوكل يطلب حظوظه. وأما قولهم: إن الأمور قد فرغ منها، فهذا نظير ما قاله بعضهم في الدعاء أنه لا حاجة إليه؛ لأن المطلوب إن كان مقدرًا فلا حاجة إليه، وإن لم يكن / مقدرًا لم ينفع الدعاء، وهذا القول من أفسد الأقوال شرعًا وعقلًا. وكذلك قول من قال: التوكل والدعاء لا يجلب به منفعة ولا يدفع به مضرة، وإنما هو عبادة محضة، وإن حقيقة التوكل بمنزلة حقيقة التفويض المحض، وهذا وإن كان قاله طائفة من المشائخ فهو غلط أيضًا، وكذلك قول من قال: إن الدعاء إنما هو عبادة محضة. فهذه الأقوال وما أشبهها يجمعها أصل واحد: وهو أن هؤلاء ظنوا أن كون الأمور مقدرة مقضية يمنع أن تتوقف على أسباب مقدرة ـ أيضًا ـ تكون من العبد، ولم يعلموا أن اللّه سبحانه يقدر الأمور ويقضيها بالأسباب التي جعلها معلقة بها من أفعال العباد، وغير أفعالهم؛ ولهذا كان طرد قولهم يوجب تعطيل الأعمال بالكلية. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأصل مرات، فأجاب عنه كما أخرجا في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: قيل لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللّه، أعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: (نعم). قالوا: ففيم العمل؟ قال: (كل ميسر لما خلق له). وفي الصحيحين عن على بن أبي طالب قال: كنا في جنازة فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فجلس ومعه مخصرة فجعل ينكت بالمخصرة في الأرض، ثم رفع رأسه وقال: (ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب مكانها من النار أو الجنة، إلا وقد كتبت شقية أو سعيدة). قال: / فقال رجل من القوم: يا نبي اللّه، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة. قال: [اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما أهل السعادة فييسرون للسعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون للشقاوة]، ثم قال نبي اللّه صلى الله عليه وسلم: [ وروى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل فقيل: يا رسول اللّه، أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقى نسترقى بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر اللّه شيئًا؟ فقال: (هي من قدر اللّه). وقد جاء هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث. فبين صلى الله عليه وسلم أن تقدم العلم والكتاب بالسعيد والشقي لا ينافى أن تكون سعادة هذا بالأعمال الصالحة، وشقاوة هذا بالأعمال السيئة، فإنه سبحانه يعلم الأمور على ما هي عليه، وكذلك يكتبها، فهو يعلم أن السعيد يسعد بالأعمال الصالحة، والشقي يشقى بالأعمال السيئة، فمن كان سعيدًا ييسر للأعمال الصالحة التي تقتضي السعادة، ومن كان شقيًا ييسر للأعمال السيئة / التي تقتضى الشقاوة، وكلاهما ميسر لما خلق له، وهو ما يصير إليه من مشيئة اللّه العامة الكونية التي ذكرها اللّه ـ سبحانه ـ في كتابه في قوله تعالى: وأما ما خلقوا له من محبة اللّه ورضاه وهو إرادته الدينية التي أمروا بموجبها فذلك مذكور في قوله: واللّه ـ سبحانه ـ قد بين في كتابه في كل واحدة: من [الكلمات] و[الأمر] و[الإرادة] و[الإذن] و [الكتاب] و [الحكم] و [القضاء] و [التحريم] ونحو ذلك ما هو ديني موافق لمحبة اللّه ورضاه وأمره الشرعي، وما هو كوني موافق لمشيئته الكونية. مثال ذلك أنه قال في الأمر الديني: وقال فى الإرادة الدينية: وقال تعالى في الإذن الديني: وقال تعالى في القضاء الديني: وقال تعالى في الحكم الديني: وقال تعالى في التحريم الديني: وقال تعالى: والمقصود هنا أنه صلى الله عليه وسلم بين أن العواقب التي خلق لها الناس من سعادة وشقاوة ييسرون لها بالأعمال التي يصيرون بها إلى ذلك، كما أن سائر المخلوقات كذلك، فهو ـ سبحانه ـ يخلق الولد وسائر الحيوان في الأرحام بما يقدره من اجتماع الأبوين على النكاح، واجتماع المائين في الرحم، فلو قال الإنسان: أنا أتوكل ولا أطأ زوجتي، فإن كان قد / قضى لي بولد وجد وإلا لم يوجد ولا حاجة إلى وطء، كان أحمق بخلاف ما إذا وطئ وعزل الماء فإن عزل الماء لا يمنع انعقاد الولد إذا شاء اللّه، إذ قد يسبق الماء بغير اختياره. ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من العرب، فاشتهينا النساء، واشتدت علىنا العزبة، وأحببنا العزل، فسألنا عن ذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (فقال ما علىكم ألا تفعلوا، فإن اللّه قد كتب ما هو خالق إلى يوم القيامة)، وفي صحيح مسلم عن جابر: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا في النخل، وأنا أطوف عليها، وأكره أن تحمل، فقال: (اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها). وهذا مع أن اللّه ـ سبحانه ـ قادر على ما قد فعله من خلق الإنسان من غير أبوين كما خلق آدم، ومن خلقه من أب فقط كما خلق حواء من ضلع آدم القصير، ومن خلقه من أم فقط كما خلق المسيح ابن مريم ـ عليه السلام، لكن خلق ذلك بأسباب أخرى غير معتادة. وهذا الموضع، وإن كان إنما يجحده الزنادقة المعطلون للشرائع، فقد وقع في كثير من دقه كثير من المشائخ المعظمين يسترسل أحدهم مع القدر / غير محقق لما أمر به ونهى عنه، ويجعل ذلك من باب التفويض والتوكل، والجري مع الحقيقة القدرية، ويحسب أن قول القائل: ينبغي للعبد أن يكون مع اللّه كالميت بين يدي الغاسل يتضمن ترك العمل بالأمر والنهي حتى يترك ما أمر به، ويفعل ما نهى عنه وحتى يضعف عنده النور والفرقان الذي يفرق به بين ما أمر اللّه به وأحبه ورضيه، وبين ما نهى عنه وأبغضه وسخطه فيسوي بين ما فرق اللّه بينه كما قال تعالى: حتى يفضي الأمر بغلاتهم إلى عدم التمييز بين الأمر بالمأمور النبوي الإلهي الفرقاني الشرعي الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبين ما يكون في الوجود من الأحوال التي تجري على أيدي الكفار والفجار، فيشهدون وجه الجمع من جهة كون الجميع بقضاء اللّه وقدره وربوبيته وإرادته العامة، / وأنه داخل في ملكه، ولا يشهدون وجه الفرق الذي فرق اللّه به بين أوليائه وأعدائه، والأبرار والفجار، والمؤمنين والكافرين، وأهل الطاعة الذين أطاعوا أمره الديني، وأهل المعصية الذين عصوا هذا الأمر، ويستشهدون في ذلك بكلمات مجملة نقلت عن بعض الأشياخ، أو ببعض غلطات بعضهم. وهذا أصل عظيم من أعظم ما يجب الاعتناء به على أهل طريق اللّه، السالكين سبيل الإرادة ؛ إرادة الذين يريدون وجهه، فإنه قد دخل بسبب إهمال ذلك على طوائف منهم من الكفر والفسوق والعصيان ما لا يعلمه إلا اللّه، حتى يصيروا معاونين على البغي والعدوان للمسلطين في الأرض من أهل الظلم والعلو، كالذين يتوجهون بقلوبهم في معاونة من يهوونه من أهل العلو في الأرض والفساد ظانين أنهم إذا كانت لهم أحوال أثروا بها في ذلك كانوا بذلك من أولياء اللّه ـ فإن القلوب لها من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحًا، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسدًا، فالأحوال يكون تأثيرها محبوبًا للّه تارة، ومكروهًا للّه أخرى، وقد تكلم الفقهاء على وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن حيث يجب القود في ذلك ـ ويستشهدون ببواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم بكشف يكشف له أو بتأثير يوافق إرادته هو كرامة من اللّه له، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إهانة، وأن الكرامة لزوم الاستقامة، وأن /اللّه لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه، وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء اللّه الذين قال اللّه فيهم: فإن كانوا موافقين له فيما أوجبه عليهم فهم من المقتصدين، وإن كانوا موافقين فيما أوجبه وأحبه فهم من المقربين، مع أن كل واجب محبوب وليس كل محبوب واجبًا، وأما ما يبتلى اللّه به عبده من السراء بخرق العادة أو بغيرها، أو بالضراء فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه، بل قد يسعد بها قوم إذا أطاعوه في ذلك، وقد يشقى بها قوم إذا عصوه في ذلك. قال اللّه تعالى: قسم ترتفع درجاتهم بخرق العادة إذا استعملوها في طاعة اللّه. وقوم يتعرضون بها لعذاب اللّه إذا استعملوها في معصية اللّه كبلعام وغيره. وقوم تكون في حقهم بمنزلة المباحات. /والقسم الأول: هم المؤمنون حقًا المتبعون لنبيهم سيد ولد آدم الذي إنما كانت خوارقه لحجة يقيم بها دين اللّه، أو لحاجة يستعين بها على طاعة اللّه. ولكثرة الغلط في هذا الأصل نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الاسترسال مع القدر بدون الحرص على فعل المأمور الذي ينفع العبد، فروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن باللّه ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر اللّه وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان). وفي سنن أبي داود: إن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبي اللّه ونعم الوكيل. فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (إن الله يلوم على العجز، ولكن علىك بالكيس، فإذا غلبك أمر فقل: حسبي اللّه ونعم الوكيل). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن أن يحرص على ما ينفعه وأن يستعين باللّه، وهذا مطابق لقوله تعالى: قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لسعد: (إنك لن / تنفق نفقة تبتغي بها وجه اللّه إلا ازددت بها درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها فى فيِّ امرأتك)، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه يلوم على العجز الذي هو ضد الكيس، وهو التفريط فيما يؤمر بفعله، فإن ذلك ينافى القدرة المقارنة للفعل. وإن كان لا ينافى القدرة المتقدمة التي هي مناط الأمر والنهي. فإن الاستطاعة التي توجب الفعل تكون مقارنة له، ولا تصلح إلا لمقدورها، كما ذكرها اللّه تعالى في قوله: فهذا الموضع قد انقسم الناس فيه إلى أربعة أقسام: قـوم ينظـرون إلـى جانـب الأمـر والنهـي والعبـادة والطاعـة شاهديـن لإلهية الرب ـ سبحانه ـ الذي أمروا أن يعبدوه، ولا ينظرون إلى جانب القضاء والقدر والتوكل والاستعانة، وهو حال كثير من المتفقهة والمتعبدة، فهم مع حسن قصدهم وتعظيمهم لحرمات اللّه ولشعائره يغلب عليهم الضعف والعجز والخذلان؛ لأن الاستعانة باللّه والتوكل عليه واللجأ إلىه والدعاء له هي التي تقوى العبد وتيسر عليه الأمور. /ولهذا قال بعض السلف: من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللّه. وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن عمرو؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صفته في التوراة: (إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب بالأسواق، ولا يجزى بالسيئة السيئة، ولكن يجزى بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر، ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء، فأفتح به أعينًا عميا وآذانًا صُمّا وقلوبًا غُلْفًا بأن يقولوا لا إله إلا اللّه). ولهذا روى أن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش بقولهم: لا حول ولا قوة إلا باللّه. وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنها كنز من كنوز الجنة). قال تعالى: وقسم ثان: يشهدون ربوبية الحق وافتقارهم إلىه ويستعينون به، لكن على أهوائهم وأذواقهم، غير ناظرين إلى حقيقة أمره ونهيه ورضاه وغضبه ومحبته، وهذا حال كثير من المفتقرة والمتصوفة ؛ ولهذا كثيرًا / ما يعملون على الأحوال التي يتصرفون بها في الوجود، ولا يقصدون ما يرضى الرب ويحبه، وكثيرًا ما يغلطون، فيظنون أن معصيته هي مرضاته، فيعودون إلى تعطيل الأمر والنهي ويسمون هذا حقيقة، ويظنون أن هذه الحقيقة القدرية يجب الاسترسال معها دون مراعاة الحقيقة الأمرية الدينية التي هي تحوى مرضاة الرب ومحبته وأمره ونهيه ظاهرًا وباطنًا. وهؤلاء كثيرًا ما يسلبون أحوالهم، وقد يعودون إلى نوع من المعاصي والفسوق، بل كثير منهم يرتد عن الإسلام؛ لأن العاقبة للتقوى، ومن لم يقف عند أمر اللّه ونهيه فليس من المتقين، فهم يقعون في بعض ما وقع المشركون فيه، تارة في بدعة يظنونها شرعة، وتارة في الاحتجاج بالقدر على الأمر، واللّه ـ تعالى ـ لما ذكر ما ذم به المشركين في سورة الأنعام والأعراف ذكر ما ابتدعوه من الدين وجعلوه شرعة كما قال تعالى: وأما القسم الثالث: وهو من أعرض عن عبادة اللّه واستعانته به فهؤلاء شر الأقسام. /والقسم الرابع: هو القسم المحمود وهو حال الذين حققوا ولهذا قال طائفة من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباب نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد والعقل والشرع. فقد تبين أن من ظن التوكل من مقامات عامة أهل الطريق، فقد غلط غلطًا شديدًا، وإن كان من أعيان المشائخ ـ كصاحب [علل المقامات] وهو من أجل المشائخ، وأخذ ذلك عنه صاحب [محاسن المجالس] ـ وظهر ضعف حجة من قال ذلك لظنه أن المطلوب به حظ العامة فقط، وظنه أنه لا فائدة له في تحصيل المقصود، وهذه حال من جعل الدعاء كذلك، وذلك بمنزلة من جعل الأعمال المأمور بها كذلك، كمن اشتغل بالتوكل عما يجب عليه من / الأسباب التي هي عبادة وطاعة مأمور بهـا، فإن غلـط هـذا في ترك الأسباب المأمور بها التي هي داخـلة في قوله تعـالى: لكن يقال: من كان توكله على اللّه ودعاؤه له هو في حصول مباحات فهو من العامة، وإن كان في حصول مستحبات وواجبات فهو من الخاصة، كما أن من دعاه وتوكل عليه في حصول محرمات فهو ظالم لنفسه، ومن أعرض عن التوكل فهو عاص للّه ورسوله، بل خارج عن حقيقة الإيمان، فكيف يكون هذا المقام للخاصة، قال اللّه تعالى: وقد ذكر اللّه هذه الكلمة {حَسْبِي اللَّهُ} في جلب المنفعة تارة، وفي دفع المضرة أخرى. فالأولى في قوله تعالى: والرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة: (اللّهم، بعلمك الغيب وبقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، اللّهم، إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، اللّهم، إني أسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برْد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللّهم، زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين) رواه أحمد والنسائي من حديث عمار بن ياسر. وأما ما يكون قبل القضاء فهو عزم على الرضا لاحقيقة الرضا؛ ولهذا كان طائفة من المشائخ يعزمون على الرضا قبل وقوع البلاء، فإذا وقع انفسخت عزائمهم كما يقع نحو ذلك في الصبر وغيره كما قال تعالى: ولهذا كره للمرء أن يتعرض للبلاء، بأن يوجب على نفسه ما لا يوجبه الشارع عليه بالعهد والنذر ونحو ذلك، أو يطلب ولاية، أو يقدم على بلد فيه طاعون. كما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن النذر، وقال: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل)، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال لعبد الرحمن بن سَمُرَة: (لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكِلْتَ إلىها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعِنْت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك). وثبت عنه في الصحيحين أنه قال في الطاعون: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه)، وثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا اللّه العافية، ولكن إذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف) وأمثال ذلك مما يقتضي أن الإنسان لا ينبغي له أن يسعى فيما يوجب عليه أشياء ويحرم عليه أشياء فيبخل بالوفاء، كما يفعل كثير ممن يعاهد اللّه عهودًا على أمور، وغالب هؤلاء يبتلون بنقض العهود. ويقتضي أن الإنسان إذا ابتلى فعليه أن يصبر ويثبت ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات. ولابد في جميع ذلك من / الصبر؛ ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات، وترك المحظورات. ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى اللّّه عنه. وقد ذكر اللّه الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: وجَعلَ الإمَامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله: فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولابد في الجهاد من الصبر؛ ولهذا / قال تعالى: فالعلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي، فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى. قال تعالى: وأما الرضا، فقد تنازع العلماء والمشائخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم في الرضا بالقضاء: هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين: فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين. قال عمـر بن عبـد العزيز: الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن. وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس: " إن استطعت أن تعمل للّه بالرضا مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرًا كثيرًا". /ولهذا لم يجئ في القرآن إلا مدح الراضين لا إيجاب ذلك وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب، كالمرض والفقر والزلزال، كما قال تعالى: وأما الرضا بما أمر اللّه به، فأصله واجب، وهو من الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ذاق طعم الإيمان من رضى باللّه ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا)، وهو من توابع المحبة كما سنذكره إن شاء اللّه ـ تعالى ـ قال تعالى: ومن النوع الأول: ما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: _من سعادة ابن آدم استخارته / للّه، ورضاه بما قسم اللّه له، ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارته للّه، وسخطه بما يقسم اللّه له). وأما الرضا بالمنهيات من الكفر والفسوق والعصيان، فأكثر العلماء يقولون: لا يشرع الرضا بها، كما لا تشرع محبتها، فإن اللّه ـ سبحانه ـ لا يرضاها ولا يحبها، وإن كان قد قدرها وقضاها كما قال سبحانه: وقالت طائفة: ترضى من جهة كونها مضافة إلى اللّه خلقًا، وتسخط من جهة كونها مضافة إلى العبد فعلًا وكسبًا. وهذا القول لا ينافي الذي قبله، بل هما يعودان إلى أصل واحد. وهو ـ سبحانه ـ إنما قدر الأشياء لحكمة، فهي باعتبار تلك الحكمة محبوبة مرضية، وقد تكون في نفسها مكروهة ومسخوطة؛ إذ الشىء الواحد يجتمع فيه وصفان يحب من أحدهما ويكره من الآخر، كما في الحديث الصحيح: (ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه). وأما من قال بالرضا بالقضاء الذي هو وصف اللّه وفعله لا بالمقضي الذي / هو مفعوله، فهو خروج منه عن مقصود الكلام، فإن الكلام ليس في الرضا فيما يقوم بذات الرب ـ تعالى ـ من صفاته وأفعاله، وإنما الكلام في الرضا بمفعولاته. والكلام فيما يتعلق بهذا قد بيناه في غير هذا الموضع. والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد، حتى إن بعضهم فسر الحمد بالرضا؛ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمد اللّه على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه، وفي الحديث: (أول من يدعى إلى الجنة: الحمادون الذين يحمدون اللّه في السراء والضراء)، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أتاه الأمر يسره قال: (الحمد للّه الذي بنعمته تتم الصالحات)، وإذا أتاه الأمر الذي يسوؤه قال: (الحمد للّه على كل حال). وفي مسند الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قبض ولد العبد يقول اللّه لملائكته: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي ؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد)، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو صاحب لواء الحمد، وأمته هم الحمادون الذين يحمدون اللّه على السراء والضراء. والحمد على الضراء يوجبه مشهدان: أحدهما: علم العبد بأن اللّه ـ سبحانه ـ مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه، فإنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العلىم الحكيم، الخبير الرحيم. /والثاني: علمه بأن اختيار اللّه لعبده المؤمن، خير من اختياره لنفسه، كما روى مسلم في صحيحه، وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يقضي اللّه للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له). فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن كل قضاء يقضيه اللّه للمؤمن الذي يصبر على البلاء ويشكر على السراء فهو خير له. قال تعالى: فأما من لا يصبر على البلاء، ولا يشكر على الرخاء، فلا يلزم أن يكون القضاء خيرًا له؛ ولهذا أجيب من أورد هذا على ما يقضي على المؤمن من المعاصي بجوابين: أحدهما: أن هذا إنما يتناول ما أصاب العبد لا ما فعله العبد، كما في قوله تعالى: والجواب الثاني: أن هذا في حق المؤمن الصبار الشكور. والذنوب تنقص الإيمان، فإذا تاب العبد أحبه اللّه، وقد ترتفع درجته بالتوبة. قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة. وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر اللّه ويتوب إلىه منها. وقـد ثبـت في الصحيـح عـن النبـي صلى الله عليه وسلم أنـه قـال: (الأعمـال بالخواتيم). والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب: أن يتوب فيتوب اللّه عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، أو يستغفر فيغفر له، أو يعمل حسنات تمحوها، فإن الحسنات يذهبن السيئات، أو يدعوا له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًا وميتًا، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه اللّه به، أو يشفع فيه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أو يبتليه اللّه ـ تعالى ـ في الدنيا بمصائب تكفر عنه، أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه، أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه، أو يرحمه أرحم الراحمين. /فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إلا نفسه، كما قال ـ تعالى ـ فيما يروي عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فإذا كان المؤمن يعلم أن القضاء خير له إذا كان صبارًا شكورًا، أو كان قد استخار اللّه وعلم أن من سعادة ابن آدم استخارته للّه ورضاه بما قسم اللّه له، كان قد رضى بما هو خيرله، وفي الحديث الصحيح عن على ـ رضي اللّه عنه ـ قال: (إن اللّه يقضي بالقضاء، فمن رضى فله الرضا، ومن سخط فله السخط). ففي هذا الحديث الرضا والاستخارة، فالرضا بعد القضاء والاستخارة قبل القضاء، وهذا أكمل من الضراء والصبر؛ فلهذا ذكر في ذاك الرضا، وفي هذا الصبر. ثم إذا كان القضاء مع الصبر خيرًا له، فكيف مع الرضا؟ ولهذا جاء في الحديث: (المصاب من حرم الثواب) في الأثر الذي رواه الشافعي في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات سمعوا قائلًا يقول: يا آل بيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إن في اللّه عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فباللّه فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب ولهذا لم يؤمر بالحزن المنافى للرضا قط، مع أنه لا فائدة فيه، فقد يكون فيه مضرة لكنه يعفى عنه إذا لم يقترن به ما يكرهه اللّه. /لكن البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، وذلك لا ينافى الرضا، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، وبهذا يعرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بكى على الميت وقال: (إن هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده، وإنما يرحم اللّه من عباده الرحـماء)، فإن هذا ليس كبكاء من يبكي لحظه لا لرحمة الميت، فإن الفضيل بن عياض لما مات ابنه على فضحـك وقال: رأيت أن اللّه قد قضى فأحببت أن أرضى بما قضى اللّه به، حاله حال حسن بالنسبة إلى أهل الجزع. وأما رحمة الميت مع الرضا بالقضاء وحمد اللّه ـ تعالى ـ كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أكمل. كـما قال تعالى: والناس أربعة أقسام: منهم من يكون فيه صبر بقسوة. ومنهم مـن يكـون فيه رحمة بجزع. ومنهم من يكون فيه القسوة والجزع. والمؤمن المحمود الذي يصبر على ما يصيبه ويرحم الناس. وقد ظن طائفة من المصنفين في هذا الباب أن الرضا عن اللّه من توابع المحبة له، وهذا إنما يتوجه على المأخذ الأول وهو الرضا عنه لاستحقاقه ذلك بنفسه، مع قطع العبد النظر عن حظه، بخلاف المأخذ الثاني وهو: الرضا لعلمه بأن المقضي خير له، ثم إن المحبة متعلقة به والرضا متعلق بقضائه، لكن قد يقال في تقرير ما قال هذا المصنف ونحوه. إن المحبة لله نوعان: / محبة له نفسه، ومحبة له لما فيه من الإحسان، وكذلك الحمد له نوعان: حمد له على ما يستحقه نفسه، وحمد على إحسانه إلى عبده، فالنوعان للرضا كالنوعين للمحبة. وأما الرضا به وبدينه وبرسوله، فذلك من حظ المحبة، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان، كما ذكر في المحبة وجود حلاوة الإيمان. وهذان الحديثان الصحيحان هما أصل فيما يذكر من الوجد والذوق الإيماني الشرعي، دون الضلالي البدعي. ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذاق طعم الإيمان من رضي باللّه ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا)، وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا للّه، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه اللّه منه، كما يكره أن يلقى في النار). وهذا مما يبين من الكلام على المحبة فنقول:
|